الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل البياض الذي يلي تلك الحمرة ويرى بعد سقوطها وفي تسمية ذلك شفقاً خلاف فالجمهور على أنه لا يسمى به وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبوحنيفة رضي الله تعالى عنهم على أنه يسمى وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه رجع عن ذلك إلى ما عليه الجمهور وتمام الكلام عليه في (شروح الهداية) وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة أنه هنا النهار كله.وروى ذلك عن الضحاك وابن أبي نجيح وكأنه شجعهم على ذلك عطف الليل عليه وعن عكرمة أيضًا أنه ما بقي من النهار والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا عرفت هذا أو إذا تحقق الحور بالبعث فلا أقسم بالشفق.{واليل وَمَا وسق} وما ضم وجمع يقال وسقه فاتَّسَقَ واستوسق أي جمعه فاجتمع ويقال طعام موسوق أي مجموع وابل مستوسقة أي مجتمعة قال الشاعر: ومنه الوسق الأصواع المجتمعة وهي ستون صاعاً أوحمل بعير لاجتماعه على ظهره وما تحتمل المصدرية والموصولة والجمهور على الثاني والعائد محذوف أي والذي وسقه والمراد به ما يجتمع بالليل ويأوي إلى مكانه من الدواب وغيرها وعن مجاهد ما يكون فيه من خير أو شر وقيل ما ستره وغطى عليه بظلمته وقيل ما جمعه من الظلمة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال: {وما وسق} وما عمل فيه ومنه قوله: وقيل {وسق} بمعنى طرد أي وما طرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها أو ما طرده من ضوء النهار ومنه الوسيقة قال في (القاموس) وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معاً.{والقمر إِذَا اتَّسَقَ} أي اجتمع نورع وصار بدراً.{لتركبن طبقا عَن طبق} خطاب لجنس الإنسان المنادى أولاً باعتبار شموله لأفراده والمراد بالكوب الملاقاة والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقاً وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها ومنه قول الأقرع بن حابس. وعن للمجاوزة وقال غير واحد هي بمعنى بعد كما في قولهم سادوك كابراً عن كابر وقوله: والمجاوزة والبعدية متقاربان والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لـ: {طبقا} أو حالاً من فاعل تركبن والظاهر أن نصب {طبقا} على أنه مفعول به أي لتلاقن حالاً مجاوز لحال أو كائنة بعد حال أو مجاوزين لحال أو كائنين بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول وجوز كون الركوب على حقيقته وتجعل الحال مركوبة مجازاً وقيل نصب {طبقا} على التشبيه بالظرف أو الحالية وقال جمع الطبق جمع طبقة كتخم وتخمة وهي المرتبة ويقال إنه اسم جنس جمعي واحدة ذلك والمعنى لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها ورجحه الطيبي فقال هذا الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في {فلا أقسم} [الانشقاق: 16] على قوله تعالى: {بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} [الانشقاق: 15] وفسر بعضهم الأحوال بما يكون في الدنيا من كونهم نطفة إلى الموت وما يكون في الآخرة من البعث إلى حين المستقر في إحدى الدارين وقيل يمكن أن يراد بـ: {طبقا عن طبق} الموت المطابق للعدم الأصلي والإحياء المطابق للإحياء السابق فيكون الكلام قسماً على البعث بعد الموت ويجري فيه ما ذكره الطيبي.وأخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها.وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاماً تحدثون أمراً لم تكونوا عليه فالطبق بمعنى عشرين عاماً وقد عد ذلك في (القاموس) من جملة معانيه وما ذكر بيان للمعنى المراد وقيل الطبق هنا القرن من الناس مثله في قول العباس بن عبد المطلب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن المعنى لتركبن سنن من مضى قبلكم قرناً بعد قرن وكلا القولين خلاف الظاهر.وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير {لتركبن} بتاء الخطاب وفتح الباء وروى عن ابن عباس وابن مسعود أنهما أيضًا كسرا تاء المضارعة وهي لغة بني تميم على أنه خطاب للإنسان أيضًا لكن باعتبار اللفظ لا باعتبار الشمول وأخرج البخاري عن ابن عباس أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم روى عن جماعة وكأن من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام هو المراد بالإنسان فيما تقدم يذهب إليه وعليه يراد لتركبن أحوالاً شريفة بعد أخرى من مراتب القرب أو مراتب من الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه صلى الله عليه وسلم من الكفرة ويعانيه في تبليغ الرسالة أو الكلام عدة بالنصر أي لتلاقن فتحاً بعد فتح ونصراً بعد نصر وتبشيراً بالمعراج أي لتركبن سماء بعد سماء كما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس وابن مسعود وأيد بالتوكيد بالجملة القسمية والتعقيب بالإنكارية.وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في ذلك يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر وفي رواية السماء تكون كالمهل وتكون مردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالاً بعد حال فالتاء للتأنيث والضمير الفاعل عائد على السماء وقرأ عمر وابن عباس أيضًا {ليركبن} بالياء آخر الحروف وفتح الباء على الالتفات من خطاب الإنسان إلى الغيبة وعن ابن عباس يعني نبيكم عليه الصلاة والسلام فجعل الضمير له صلى الله عليه وسلم والمعنى على نحو ما تقدم وقيل الضمير الغائب يعود على القمر لأنه يتغير أحوالاً من سرار واستهلال وأبدار.وقرأ عمر أيضًا {ليركبن} بياء الغيبة وضم الباء على أن ضمير الجمع للإنسان باعتبار الشمول وقرئ بالتاء الفوقية وكسر الباء على تأنيث الإنسان المخاطب باعتبار النفس وأمر تقدير الحالية المشار إليها فيما مر على هذه القراءات لا يخفى والفاء في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} جوز أن تكون لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة وأهوالها المشار إليها بقوله تعالى: {لتركبن} إلخ على بعض الأوجه الموجبة للإيمان والسجود أي إذا كان حالهم يوم القيامة كما أشير إليه فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمنين أي أي شيء يمنعهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وسائر ما يجب الإيمان به مع تعاضد موجباته من الأهوال التي تكون لتاركه يومئذ وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما قيل من عظيم شأنه عليه الصلاة والسلام المشار إليه بقوله سبحانه: {لتركبن} إلخ على بعض آخر من الأوجه السابقة فيه أي إذا كان حاله وشأنه صلى الله عليه وسلم ما أشير إليه فأي شيء يمنعهم من الإيمان به عليه الصلاة والسلام وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما تضمنه قوله سبحانه: {فلا أقسم} [الانشقاق: 16] إلخ مما يدل على صحة البعث من التغييرات العلوية والسفلية الدالة على كمال القدرة وإليه ذهب الإمام أي إذا كان شأنه تعالى شأنه كما أشير إليه من كونه سبحانه وتعالى عظيم القدرة واسع العلم فأي شيء يمنعهم عن الإيمان بالبعث الذي هو من جملة الممكنات التي تشملها قدرته عز وجل ويحيط بها علمه جل جلاله.{وَإِذْ قرئ عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ} عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روى عن قتادة أو المراد به الصلاة وفي قرن ذلك بالإيمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى أو هو على ظاهره فالمراد بما قبله قرئ القرآن المخصوص أو وفيه آية سجدة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية.أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] و{اقرأ باسم رَبّكَ}[العلق:1]».وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إِذَا السماء انشقت} فسجد فقلت له فقال سجدت خلفي أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام.وفي ذلك رد علي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال ليس في المفصل وهو من سورة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل من الفتح وقيل هو قول الأكثر من الحجرات سجدة وهي سنة عند الشافعي الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة.قال الإمام روى «أنه صلى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم {واسجد واقترب} [العلق: 19] فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر فنزلت هذه الآية».واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين الأول إن فعله عليه الصلاة والسلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى: {أتبعوه} الثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب انتهى وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت.{بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ} أي بالقرآن وهو انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءته إلى كونهم يكذبون به صريحاً ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة يكذبون مخففاً وبفتح الياء.{والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء والبغي فما موصولة والعائد محذوف وأصل الإيعاء جعل الشيء في وعاء وفي مفردات الراغب الإيعاء حفظ الأمتعة في وعاء ومنه قوله: وأريد به هنا الإضمار مجازاً وهو المروي عن ابن عباس ولا يلزم عليه كون الآية في حق المنافقين مع كون السورة مكية كما لا يخفى وفسره بعضهم بالجمع وحكى عن ابن زيد وجوز أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء وأياً ما كان فعلم الله تعالى بذلك كناية عن مجازاته سبحانه عليه وقيل المراد الإشارة إلى أن لهم وراء التكذيب قبائح عظيمة كيرة يضيق عن شرحها نطاق العبارة وقال بعضهم يحتمل أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يضمرونه في أنفسهم من أدلة كونه أي القرآن حقًّا فيكون المراد المبالغة في عتادهم وتكذيبهم على خلاف علمهم والظاهر أن الجملة على هذا حال من ضمير {يكذبون} وكونها كذلك على ما قيل من الإشارة خلاف الظاهر وقرأ أبو رجاء {بما يعون} من وعي يعي.{فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مرتب على الاخبار بعلمه تعالى بما يوعون مراداً به مجازاتهم به وقيل على تكذيبهم وقيل الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم ما ذكر {فَبَشّرْهُم} إلخ والتبشير في المشهور الاخبار بسار والتعبير به هاهنا من باب: وجوز أن يكون ذلك على تنزيلهم لانهماكهم في المعاصي الموجبة للعذاب وعدم استرجاعهم عنها منزلة الراغبين في العذاب حتى كان الإخبار به تبشيراً وإخباراً بسار والفرق بين الوجهين يظهر بأدنى تأمل وأبعد جدًّا من قال إن ذلك تعريض بمحبة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم البشارة فيستعار لأمره عليه الصلاة والسلام بالإنذار لفظ البشارة تطييباً لقلبه صلى الله عليه وسلم.{إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} استثناء منقطع من الضمير المنصوب في {فبشرهم} وجوز أن يكون متصلاً على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل الصالحات من آمن وعمل بعد منهم أي من أولئك الكفرة والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى أوهما بمعنى المضارع ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أن الأول أنسب منه بقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين كافة وكون الاختصاص إضافياً بالنسبة ءلى الباقين على الكفر منهم خلاف الظاهر على أن إيهام الاختصاص بالمؤمنين منهم يكفي في الغرض كما لا يخفى والتنوين في أجر للتعظيم ومعنى غير ممنون غير مقطوع من من إذا قطع أو غير معتد به ومحسوب عليهم من من عليه إذا اعتد بالصنيعة وحسبها وجعل بعضهم المن بهذا المعنى من من بمعنى قطع أيضًا لما أنه يقطع النعمة ويقتضي قطع شكرها والجملة على ما قيل استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عن المذكورين ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم الكثير. اهـ.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {لتركبن} بضم الموحدة على خطاب الناس.وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادِحٌ} [الانشقاق: 6].وحُمل أيضًا على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء، أي تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالدِّهان ومرة كالمُهل.وقيل: خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية: قيل: هي عِدة بالنَّصر، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما وجد بعد ذلك (أي بعد نزول الآية حين قويَ جانبُ المسلمين) فيكون بشارة للمسلمين، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة: {إنه ظن أن لن يحور} [الانشقاق: 14] وجملة: {فما لهم لا يؤمنون} [الانشقاق: 20].وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين.{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}يجوز أن يكون التفريع على ما ذكر من أحوال مَن أوتي كتابه وراء ظهره، وأعيد عليه ضمير الجماعة لأن المراد بـ: (من) الموصولة كل من تحق فيه الصلة فجرى الضمير على مدلول (مَن) وهو الجماعة.والمعنى: فما لهم لا يخافون أهوال يوم لقاء الله فيؤمنوا.ويجوز أن يكون مفرعاً على قوله: {يا أيها الإنسان إنك كادِحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6]، أي إذا تحققت ذلك فكيف لا يؤمن بالبعث الذين أنكروه.وجيء بضمير الغيبة لأن المقصود من الإِنكار والتعجيب خصوص المشركين من الذين شملهم لفظ الإِنسان في قوله: {يا أيها الإنسان إنك كادِحٌ} لأن العناية بموعظتهم أهم فالضمير التفات.ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله: {لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق: 19] فيكون مخصوصاً بالمشركين باعتبار أنهم أهم في هذه المواعظ.والضمير أيضًا التفات.ويجوز تفريعه على ما تضمنه القسم من الأحوال المقسم بها باعتبار تضمن القَسَم بها أنها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وتفرده بالإلهية ففي ذكرها تذكرة بدلالتها على الوحدانية.والالتفات هو هو.وتركيب {ما لهم لا يؤمنون} يشتمل على (مَا) الاستفهامية مُخبر عنها بالجار والمجرور.والجملة بعد {لهم} حال من (ما) الاستفهامية.وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكَر أن يُسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب والإِنكار مجاز بعلاقة اللزوم، واللام للاختصاص.وجملة: {لا يؤمنون} في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسمٌ لَكان منصوباً كما في قوله تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88] والحال هي مناط التعجيب، وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصّيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى: {قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل في سبيل الله} في سورة البقرة (246).ومتعلق {يؤمنون} محذوف يدل عليه السّياق، أي بالبعث والجزاء.ويجوز تنزيل فعل {يؤمنون} منزلة اللازم، أي لا يتصفون بالإيمان، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين، لظهور الدلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإِشراك به.والمعنى: التعجيب والإِنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دُعوا إليه وأُنذروا به.و{لا يسجدون} عطف على {لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن} ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن.وقراءة القرآن عليهم قراءته قراءة تبليغ ودعوة.وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم القرآن جماعات وأفراداً وقد قال له عبد الله بن أبيّ بن سلول: (لا تَغْشَنا به في مجالسنا) وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على الوليد بن المغيرة كما ذكرناه في سورة عبس.والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع كقوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6] وقوله: {يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدًّا للَّه} [النحل: 48]، أي إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون لله ولمعاني القرآن وحجته، ولا يؤمنون بحقيته ودليل هذا المعنى مقابلته بقوله: {بل الذين كفروا يكذبون} [الانشقاق: 22].وليس في هذه الآية ما يقتضي أنَّ عند هذه الآية سجدةً من سجود القرآن والأصحّ من قول مالك وأصحابه أنها ليست من سجود القرآن خلافاً لابن وَهب من أصحاب مالك فإنه جعل سجودات القرآن أربع عشرة.وقال الشافعي: هي سُنة.وقال أبو حنيفة: واجبة.والأرجح أن عزائم السجود المسنونة إحدى عشرة سجدة وهي التي رويت بالأسانيد الصحيحة عن الصّحابة.وإن ثلاث آيات غير الإِحدى عشرة آية رويت فيها أخبار أنها سجد النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءتها منها هذه وعارضتها روايات أخرى فهي: إمّا قد تُرك سجودها، وإمّا لم يؤكد ومنها قوله تعالى هنا: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}.وقال ابن العربي السجود في سورة الانشقاق قول المدنيين من أصحاب مالك. اهـ.قلت: وهو قول ابن وهب ولا خصوصية لهذه الآية بل ذلك في السجدات الثلاث الزائدة على الإِحدى عشرة وقد قال مالك في (الموطأ) بعد أن رَوى حديث أبي هريرة: «الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء» وقال أبو حنيفة والشافعي: سجدات التلاوة أربع عشرة بزيادة سجدة سورة النجم وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق.وقال أحمد: هن خمس عشرة سجدة بزيادة السجدة في آخر الآية من سورة الحجّ ففيها سجدتان عنده.{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)}يجوز إنه إضراب انتقالي من التعجيب من عدم إيمانهم وإنكاره عليهم إلى الإِخبار عنهم بأنهم مستمرون على الكفر والطعن في القرآن، فالكلام ارتقاء في التعجيب والإِنكار.فالإِخبار عنهم بأنهم يكذبون مستعمل في التعجيب والإِنكار فلذلك عبر عنه بالفعل المضارع الذي يستروح منه استحضار الحالة مثل قوله: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74].ويجوز أن يكون {بل} إضراباً إبطالياً، أي لا يوجد ما لأجله لا يؤمنون ولا يصدقون بالقرآن بل الواقع بضد ذلك فإن بواعث الإيمان من الدلائل متوفرة ودواعي الاعتراف بصدق القرآن والخضوع لدعوته متظاهرة ولكنهم يكذبون، أي يستمرون على التكذيب عناداً وكبرياء ويومئ إلى ذلك قوله: {واللَّه أعلم بما يوعون} [الانشقاق: 23].وهذان المعنيان نظيرُ الوجهين في قوله تعالى في سورة الانفطار (9-10) {بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين}.وفي اجتلاب الفعل المضارع دلالة على حدوث التكذيب منهم وتجدده، أي بل هم مستمرون على التكذيب عناداً وليس ذلك اعتقاداً فكما نُفي عنهم تجدُّد الإيمان وتجدد الخضوع عند قراءة القرآن أُثبت لهم تجدد التكذيب.وقوله: {الذين كفروا} إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: بل هم يكذبون، فعدل إلى الموصول والصلة لما تؤذن به الصلة من ذمهم بالكفر للإِيماء إلى علة الخبر، أي أنهم استمروا على التكذيب لتأصل الكفر فيهم وكونهم ينعتون به.{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)}اعتراض بين جملة {بل الذين كفروا يكذبون} [الانشقاق: 22]، وجملة: {فبشرهم بعذاب أليم} [الانشقاق: 24] وهو كناية عن الإِنذار والتهديد بأن الله يجازيهم بسوء طويتهم.ومعنى {بما يوعون} بما يُضمرون في قلوبهم من العناد مع علمهم بأنَّ ما جاء به القرآن حق ولكنهم يظهرون التّكذيب به ليكون صدودهم عنه مقبولاً عند أتباعهم وبين مجاوريهم.وأصل معنى الإِيعاء: جعل الشيء وعاء والوعاء بكسر الواو الظرف لأنه يُجمع فيه، ثم شاع إطلاقه على جمع الأشياء لئلا تفوت فصار مشعراً بالتقتير، ومنه قوله تعالى: {وجَمَع فأوعى} [المعارج: 18] وفي الحديث: «لا تُوعي فيُوعي الله عليكِ» واستعمل في هذه الآية في الإِخفاء لأنّ الإِيعاء يستلزم الإِخفاء فهو هنا مجاز مرسل.{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)}تفريع على جملة {بل الذين كفروا يكذبون} [الانشقاق: 22].وفعل {بشِّرهم} مستعار للإِنذار والوعيد على طريقة التهكم لأن حقيقة التبشير: الإِخبار بما يَسرّ وينفع. فلما علق بالفعل عذاب أليم كانت قرينة التهكم كنَار على عَلم. وهو من قبيل قول عمرو بن كلثوم: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً: إمَّا على أنه استثناء من الضمير في قوله: {لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق: 19] جريا علي تأويله بركوب طباق الشدائد والأهوال يوم القيامة وما هو في معنى ذلك من التهديد.وإمّا على أنه استثناء من ضمير الجمع في {فبشرهم} [الانشقاق: 24] والمعنى إلا الذين يؤمنون من الذين هم مشركون الآن كقوله تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا} [البقرة: 160] وقوله في سورة البروج (10): {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا الآية وفعل آمنوا} على هذا الوجه مراد به المستقبل، وعبّر عنه بالماضي للتنبيه على معنى: مَن تحقق إيمانهم، وما بينهما من قوله: {فما لهم لا يؤمنون} [الانشقاق: 20] إلى هنا تفريع معترض بين المستثنى والمستثنى منه خصّ به الأَهمَّ ممن شملهم عموم {لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق: 19].وقيل: هو استثناء منقطع من ضمير {فبشرهم} فهو داخل في التبشير المستعمل في التهكم زيادة في إدخال الحزن عليهم.فحرف {إلاّ} بمنزلة (لكن) والاستدراك فيه لمجرد المضادة لا لِدفع توهم إرادة ضد ذلك ومثل ذلك كثير في الاستدراك، وأما تعريف بعضهم الاستدراك بأنه تعقيب الكلام برفع ما يُتوهم ثبوته أو نفيُه، فهو تعريف تقريبي.وجملة {لهم أجر غير ممنون} استئناف بياني كأنَّ سائلاً سأل: كيف حالهم يوم يكون أولئك في عذاب أليم؟والأجر غير الممنون هو الذي يعطاه صاحبُه مع كرامة بحيث لا يعرَّض له بمنة كما أشار إليه قوله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} [الأحقاف: 14] ونحوه مما ذكر فيه مع الجزاء سببُه، والمعنى: أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدر فإن المنّ ينغّص الإِنعام قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] وقال النابغة: ومن نوابغ الكلم للعلامة الزمخشري: طعم الآلاءِ أحْلَى من المَنّ.وهو أمرّ من الآلاء مَعَ المَنّ.ويجوز أن يكون {غير ممنون} بمعنى غير مقطوع يُقال: مننت الحبل، إذا قطعته، قال تعالى: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} [الواقعة: 32، 33].سأل نافع بن الأزرق الخارجي عبدَ اللَّه بن عباس عن قوله: {غير ممنون} فقال: غير مقطوع، فقال: هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم قد عرفه أخو يَشكر (يعني الحارث بن حلزة) حيث يقول: المنين: الغبار لأنها تقطعه وراءها. اهـ.
|